
قدم لنا أبو حيان التوحيدي عصارة فكره في ثوب قشيب يزهو خالدا مدى الدهر كتابه الذي يعد من أمهات الكتب في التراث العربي، والذي سماه "الإمتاع والمؤانسة"، وهذا السفر العظيم الذي ينم عن معرفة عظيمة وحكمة بالغة وإطلاع واسع وفهم عميق يأتينا بوجهه المشرق؛ لينقل أرواحنا والدهشة والإعجاب تسيطر عليها إلى عالم آخر وبيئة غير التي نحن فيها الآن ، لينقلنا إلى بغداد القرن الرابع الهجري إلى قصور الخلفاء ومجالس العلماء إلى المساجد والكتاتيب والدواوين وأسواق العطارين، ثم ينفح علينا من فقه العلماء، وفلسفة المناطقة ونحو اللغويين، وإنشاء البلغاء، وشعر المبدعين، وخيال الكتاب، وسياسة الحكام والأمراء، ويستولي على أفكارنا بحوار المفكرين، ونقاش العلماء والمجادلين، كتاب يضمن لك جولة سياحية مجانية ممتعة لا تشعر فيها بالملل ولا السأم، ولن تتردد في العودة إليها مرارا وتكرارا، ومن لم يمر على الكتاب ولم يستنشق عبير روائحه وزاكي عطوره فقد فاته الخير العميم، وها أنا أقدم في هذا التقرير ملخصا عن الجزء الأول منه متطرقا إلى مؤلف الكتاب، وسبب تأليفه، وطريقة عرضه، ومحتوياته، والأسلوب المتبع فيه.
كتاب الإمتاع والمؤانسة:
هو كتاب يجمع مسامرات ومحاوارات أبي حيان التوحيدي مع الوزير أبي العارض، يتطرق فيه إلى أهم موضوعات عصره والرد على القضايا والتساؤلات التي يثيرها الوزير بأسلوب سردي جميل، قام بتأليفه عام 374هـ، وإليكم هذا الملخص عنه، وعن مؤلفه:
مؤلف الكتاب:
هو أبو حيان علي بن محمد بن العباس التوحيدي البغدادي، عاش في القرن الرابع الهجري، وقضى معظم حياته متنقلا بين فارس وبغداد، وانضم إلى الوزير ابن العميد الملقب بذي الكفايتين إلا أنه لم ينل عنده مأموله لأن الوزير ابن عباد قلب حياته جحيما، وناصبه العداء منذ البداية، فلجأ إلى صديقه أبو الوفاء المهندس وهو أحد أعيان بغداد ليعينه ويتوسط له عند الوزير أبي عبد الله العارض، ففعل وتم له مراده، وانضم لمجلسه يسامره ويحادثه في شتى مجالات المعرفة فترة من الزمن، ألف العديد من الكتب، واشتهر بمخالطة الصوفيين، وبتعمقه في الفلسفة والمنطق الذي درسهما على يد شيخه أبي سليمان المنطقي، توفي في حدود 400 هـ.
سبب التأليف:
لما ساعد أبو الوفاء المهندس أبا حيان في التوسط له عند الوزير أبي العارض، واستقر المقام بأبي حيان التوحيدي وأصبح من الأصفياء المقربين، مضت فترة انقطع فيها عن صديقه أبي الوفاء، فأحس هذا الأخير بالبعد والجفاء والنكران للجميل، فاستدعاه وخاطبه خطابا شديد اللهجة معاتبا إياه ولائما منه سوء تصرفه، واعتداده بنفسه، وهدده بالمقاطعة إلا إذا قام بنقل كافة المسامرات والمحاورات التي جرت بينه وبين الوزير إليه، فوافق أبو حيان على ذلك، وبدأ في تسطير كتاب يبدأ بعتاب أبي الوفاء، ورده هو عليه، ثم المسامرات التي جرت بينه وبين الوزير.
طريقة العرض:
لم يتبع أبو حيان تصنيفا موحدا لموضوعات كتابه، وإنما قسمه إلى ليالٍ يذكر في كل ليلة القضايا التي طرحت ونوقشت، والأسئلة التي أثيرت والأجوبة التي رد بها عليها، ولم يكن من الممكن توحيد الموضوعات لأنها كانت تثار من وحي اللحظة وحسبما يجري به الحديث والحوار، وأيضا لأن الموضوعات أتت متعددة مشاربها، متنوعة مداخلها ومخارجها، فغطت مساحات واسعة من المعرفة، والطريقة التي اتبعها أبو حيان في كتابه تحقق تماما عنوانه، وتؤدي بكل جدارة الوظيفة المناطة بها وهي إمتاع القارئ وإيناسه، وذكر في المقدمة عتاب أبي الوفاء له كاملا، ورده – أي أبي حيان – عليه، وكان الوزير غالبا هو السائل، وأبو حيان المجيب، فيبدآن ليلتهما بقضية ما يختارونها بناء على عدة أسباب: إما توضيحا لحادثة وقعت في البلاد، أو تفسيرا لمعضلة من المعضلات الفكر طرحت في الجلسة، أو لمجرد طلب الثقافة العامة، وتختم الليلة غالبا بملحة هي عبارة عن طرفة أو أبيات شعرية أو عبرة يلقيها أبو حيان، وكان الحديث يستمر حتى يغلبهما النعاس، وأتى الكتاب في أربعين ليلة موزعة على ثلاثة أجزاء، ونحن سنتطرق للجزء الأول ونرى أن ذلك كافيا ليعطينا فكرة عامة وجيدة عن الكتاب.
كتاب الإمتاع والمؤانسة:
هو كتاب يجمع مسامرات ومحاوارات أبي حيان التوحيدي مع الوزير أبي العارض، يتطرق فيه إلى أهم موضوعات عصره والرد على القضايا والتساؤلات التي يثيرها الوزير بأسلوب سردي جميل، قام بتأليفه عام 374هـ، وإليكم هذا الملخص عنه، وعن مؤلفه:
مؤلف الكتاب:
هو أبو حيان علي بن محمد بن العباس التوحيدي البغدادي، عاش في القرن الرابع الهجري، وقضى معظم حياته متنقلا بين فارس وبغداد، وانضم إلى الوزير ابن العميد الملقب بذي الكفايتين إلا أنه لم ينل عنده مأموله لأن الوزير ابن عباد قلب حياته جحيما، وناصبه العداء منذ البداية، فلجأ إلى صديقه أبو الوفاء المهندس وهو أحد أعيان بغداد ليعينه ويتوسط له عند الوزير أبي عبد الله العارض، ففعل وتم له مراده، وانضم لمجلسه يسامره ويحادثه في شتى مجالات المعرفة فترة من الزمن، ألف العديد من الكتب، واشتهر بمخالطة الصوفيين، وبتعمقه في الفلسفة والمنطق الذي درسهما على يد شيخه أبي سليمان المنطقي، توفي في حدود 400 هـ.
سبب التأليف:
لما ساعد أبو الوفاء المهندس أبا حيان في التوسط له عند الوزير أبي العارض، واستقر المقام بأبي حيان التوحيدي وأصبح من الأصفياء المقربين، مضت فترة انقطع فيها عن صديقه أبي الوفاء، فأحس هذا الأخير بالبعد والجفاء والنكران للجميل، فاستدعاه وخاطبه خطابا شديد اللهجة معاتبا إياه ولائما منه سوء تصرفه، واعتداده بنفسه، وهدده بالمقاطعة إلا إذا قام بنقل كافة المسامرات والمحاورات التي جرت بينه وبين الوزير إليه، فوافق أبو حيان على ذلك، وبدأ في تسطير كتاب يبدأ بعتاب أبي الوفاء، ورده هو عليه، ثم المسامرات التي جرت بينه وبين الوزير.
طريقة العرض:
لم يتبع أبو حيان تصنيفا موحدا لموضوعات كتابه، وإنما قسمه إلى ليالٍ يذكر في كل ليلة القضايا التي طرحت ونوقشت، والأسئلة التي أثيرت والأجوبة التي رد بها عليها، ولم يكن من الممكن توحيد الموضوعات لأنها كانت تثار من وحي اللحظة وحسبما يجري به الحديث والحوار، وأيضا لأن الموضوعات أتت متعددة مشاربها، متنوعة مداخلها ومخارجها، فغطت مساحات واسعة من المعرفة، والطريقة التي اتبعها أبو حيان في كتابه تحقق تماما عنوانه، وتؤدي بكل جدارة الوظيفة المناطة بها وهي إمتاع القارئ وإيناسه، وذكر في المقدمة عتاب أبي الوفاء له كاملا، ورده – أي أبي حيان – عليه، وكان الوزير غالبا هو السائل، وأبو حيان المجيب، فيبدآن ليلتهما بقضية ما يختارونها بناء على عدة أسباب: إما توضيحا لحادثة وقعت في البلاد، أو تفسيرا لمعضلة من المعضلات الفكر طرحت في الجلسة، أو لمجرد طلب الثقافة العامة، وتختم الليلة غالبا بملحة هي عبارة عن طرفة أو أبيات شعرية أو عبرة يلقيها أبو حيان، وكان الحديث يستمر حتى يغلبهما النعاس، وأتى الكتاب في أربعين ليلة موزعة على ثلاثة أجزاء، ونحن سنتطرق للجزء الأول ونرى أن ذلك كافيا ليعطينا فكرة عامة وجيدة عن الكتاب.
المحتويات:
مثلما ذكرنا سابقا فإن محتويات الكتاب لم تأتي منتظمة، وإنما تركوا الأمر على عواهنه، فنلاحظ أن الحديث في الليلة الأولى أتى ليضع اللبنات الأساسية للمنهجية التي ستسير عليها هذه المسامرات والأحاديث، ثم انتقلوا لمناقشة أهمية التحدث والحديث، وضوابطه وعلاقته بالعقل، والفرق بين المحدث والحادث والحديث، وهكذا نلاحظ انسيابية القضايا المطروحة وعفويتها؛ ولذلك تنوعت محتويات الكتاب تنوعا غنيا ووافرا، حيث غطت مجالات عديدة من المعرفة، امتدت إلى عصور متباينة، وشملت مناطق مختلفة في العالم، وكان تطرقهم للقضايا يختلف حسب الموضوع ومسار الحديث فأحيانا يكون معمقا ومفصلا، وأحيانا يكون مجرد إشارات، وأذكر هنا أمثلة على القضايا التي تطرق إليها الكتاب (لا يشترط أن تكون مشروحة بالتفصيل):
- في الإلهيات والعقائد، ومثال ذلك: تطرقهم لعقائد بعض الأمم، مثل: الهنود، واليونان، والفرس (الزرادشتية)، وإيراد أبي حيان لكتاب العامري في القضاء والقدر.
- في الفلسفة وعلم المنطق وفي الصوفيات والروحانيات، وتطرق الكتاب في مواضع عديدة لذكر المواقف المتعددة لعلماء ذلك العصر من هذه العلوم، وكان أبو حيان كثيرا ما ينقل آراء ودروس شيخه أبي سليمان المنطقي في قضايا مشابهة من مثل تعريف النفس والعقل والسكينة، وفي المنطق ذكر أبو حيان مقالا لابن يعيش في الممكن والفرق بينه وبين الواجب والممتنع، وذكر الحوار الحامي الشهير بين أبي سعيد السيرافي النحوي الفقيه، وأبي بشر متى المناصر للعلوم المنطقية اليونانية والداعي بشدة إليها، و لميوله الصوفية وتعمقه في علوم المنطق أطنب أبو حيان في مرات عديدة في التحدث عنها وذكر أهم قضاياها وبحثها.
- في اللغة بكافة أقسامها من صرف ونحو وبلاغة وغيرها من علوم اللغة: حيث كان الوزير غالبا ما يسأله عن مسألة لغوية وأبو حيان يجيب عليها، وكانت الأسئلة تدور حول الفروق اللغوية، وتوضيح معاني بعض الكلمات الغريبة ومواقع استخدامها، وعن بعض الأفعال وما هي الحروف التي تتعدى بها، وكان أبو حيان يتحدث أحيانا عن اللغة العربية ذاكرا ما تتميز به بشكل عام عن اللغات الأخرى، وأحيانا كان يدافع عن علم خاص كمدافعته المستميتة لعلم البلاغة وإفحامه لمن فضل علم الحساب عليها، وكذكره لمحاورة أبي سعيد السالفة التي بين فيها أهمية النحو في جعل الحياة أفضل بتسهيل وتيسير التواصل بين الناس وجعله أكثر كفاءة وفعالية.
- في الأدب بكافة أقسامه من خطب ورسائل ومقولات وأشعار، ففي مرات كثيرة كان يستشهد بأبيات لشعراء متعددين من عصور مختلفة كأبي الورد وذي الرمة والقطامي والحجاج (شاعر معروف في عصره)، وأيضا كان يستشهد ويذكر خطبا ومقولات لفصحاء ومتكلمين سابقين، ويزين حديثه أيضا بقصص غريبة وحوادث عجيبة وقعت في عصور مختلفة.
- في قضايا عصره وسياسة حكامه، وفي وصف وزرائه وعلمائه وشعرائه وأدبائه، ففي مرات عديدة كان الوزير يسأل أبا حيان عن رأيه في مجموعة من الشعراء والعلماء في مجالات مختلفة، وأحيانا كانوا يناقشون قضايا سياسية، وبعض الجماعات التي تظهر هنا وهناك، وكيفية التعامل معها مما ينقل إلينا صورة لا بأس بها عن حوادث ذلك الدهر وأحواله.
- في الإنسان والأمم والشعوب وأحوالها وفي الأخلاق والسجايا والطبائع، حيث تطرق لتعريف الإنسان، ومم يتكون، وتعرض للأمم والنقاشات الواردة حول أفضلية بعضها على بعض، وذكر أنه يرى أن لكل أمة فضائل ومساوئ وهي متغيرة بذلك حسب أحوالها وأزمانها وقوتها وضعفها، وذكر مطولا أخبار العرب وصفاتهم ودافع عنهم، ورد على الجيهاني الذي ألف كتابا في مثالب العرب، وتطرق أيضا للأخلاق فعرفها وذكر ما هو خلق وما هو ليس بخلق، وتعرض لشرح وتفصيل أخلاق الناس وكيف أنهم يشابهون الحيوانات فيها إلا أنهم يتميزون عنها بالعقل.
- في عالم الحيوانات، وغاص هنا وأبحر وذكر في ثلاث ليال متتالية كما هائلا من المعلومات عن حيوانات متعددة ومتنوعة المألوف منها والغريب، الموجود والمنقرض، الحقيقي والخرافي، وطفق يذكر صفاتها، وطباعها، وتناسلها، ويقارن بينها وبين الإنسان.
الأسلوب:
اتبع أبو حيان في كتابه أسلوبا سرديا رائعا، يخاطب فيه صديقه أبا الوفاء المهندس، ويذكر له الحوارات التي دارت بينه وبين الوزير بأسلوب تكثر فيه:
- الجمل القصيرة، والسجع المنظم المسبوك، ولننظر إليه حين يقول:" من شف أمله شق عمله، ومن اشتد إلحاحه، توالى غدوه ورواحه، ومن أسره رجاؤه، طال عناؤه، وعظم بلاؤه، ومن التهب طمعه وحرصه، ظهر عجزه ونقصه"
- ثم إنه إذا وصف بالغ وأتقن ولم يترك واردة في الموصوف ولا شاردة إلا وقيدها، وذلك تطبيقا لأمر العارض حين قال له: "واجزم إذا قلت، وبالغ إذا وصفت"، وهذا الوصف البديع يتجلى بوضوح حين قام بوصف الوزير ابن عباد فلنستمع إليه قائلا:" والناس كلهم محجمون عنه؛ لجرأته وسلاطته واقتداره وبسطته، شديد العقاب طفيف الثواب طويل العتاب، بذيء اللسان، يعطي كثيرا قليلا أعني يعطي الكثير القليل، مغلوب بحرارة الرأس، سريع الغضب، بعيد الفيئة قريب الطيرة، حسود حقود حديد، وحسده وقف على أهل الفضل، وحقده سار إلى أهل الكفاية"
- وكان أسلوبه صريحا فيعترف لأهل الفضل بالفضل، ولأهل الإساءة بالإساءة، فهو كثيرا ما يتبع ذكره لشيخه أبي سليمان، والوزير العارض، وصديقه أبو الوفاء المهندس بألفاظ الدعاء بالرحمة والبقاء والحفظ، ويتبع ذكره للزنادقة والمناطقة والمتفيقهين بما يستحقونه.
- ونلاحظ أنه ينسب كل مقولة وكل معلومة يذكرها لصاحبها، وإن أغفل ذلك أحيانا فإن الوزير يسأله عن مصدر تلك المعلومة حتى يقطع الشك باليقين.
- وعرضه للمعلومة شامل يأتيها من كل جوانبها، ويلاحق جميع نقاطها نقطة نقطة كما في رده على المدعي بأن علم الحساب هو أفضل العلوم وأن علوم البلاغة ما هي إلا فضلة لا داعي لها، فرد عليه أبو حيان ردا شاملا تعرض لكل كلمة ذكرها ذلك المدعي ونقضها من غزلها، وفضحها على الملأ مبينا عوارها.
- ودائما ما يورد الحجج العقلية في معرض رده على بعض الخصوم، أو محاولة إقناعه لمحدثيه بنقطة ما، كرده على المدعي السابق، والذي قال له: بأنك حتى تقنعني بوجهة نظرك لجأت إلى علم البلاغة فصغت جملك المنمقة، وعرضت ألفاظك عرضا تهدف فيه إلى تبيين وجهة نظرك، وهذا هو جوهر البلاغة.
الخاتمة:
أتمنى أن تكون الجولة قد أمتعتكم، وشجعتكم على قراءة هذا الكتاب العظيمة خيراته، الوافرة بركاته، التي سيطلعك بلا شك على حقبة من حقبات تاريخنا العظيم، وسينقل لك أخبار قوم دفنت أجسادهم تحت الثرى، وما زالت عبق ذكراهم يفوح في الهواء، ويفتح عقلك على قضايا متعددة لها صلة كبيرة بواقعنا المعاش، حول العرب وصفاتهم وما كانوا عليه، وحول اللغة العربية وكيف ينبغي أن ينظر إليها، وحول بعض العلوم المتعلقة بها من نحو وبلاغة، ويوجه نظرك إلى الهدف الحقيقي والغاية السامية من هذه العلوم، وفي النهاية ليس كل ما سبق هو الهدف الحقيقي لهذا الكتاب، وإنما هو مسامرة، مثاقفة، محاورة، عصر للأفكار، تحريك للذهن، تلاقح بين العقول، إمتاع ومؤانسة.
مثلما ذكرنا سابقا فإن محتويات الكتاب لم تأتي منتظمة، وإنما تركوا الأمر على عواهنه، فنلاحظ أن الحديث في الليلة الأولى أتى ليضع اللبنات الأساسية للمنهجية التي ستسير عليها هذه المسامرات والأحاديث، ثم انتقلوا لمناقشة أهمية التحدث والحديث، وضوابطه وعلاقته بالعقل، والفرق بين المحدث والحادث والحديث، وهكذا نلاحظ انسيابية القضايا المطروحة وعفويتها؛ ولذلك تنوعت محتويات الكتاب تنوعا غنيا ووافرا، حيث غطت مجالات عديدة من المعرفة، امتدت إلى عصور متباينة، وشملت مناطق مختلفة في العالم، وكان تطرقهم للقضايا يختلف حسب الموضوع ومسار الحديث فأحيانا يكون معمقا ومفصلا، وأحيانا يكون مجرد إشارات، وأذكر هنا أمثلة على القضايا التي تطرق إليها الكتاب (لا يشترط أن تكون مشروحة بالتفصيل):
- في الإلهيات والعقائد، ومثال ذلك: تطرقهم لعقائد بعض الأمم، مثل: الهنود، واليونان، والفرس (الزرادشتية)، وإيراد أبي حيان لكتاب العامري في القضاء والقدر.
- في الفلسفة وعلم المنطق وفي الصوفيات والروحانيات، وتطرق الكتاب في مواضع عديدة لذكر المواقف المتعددة لعلماء ذلك العصر من هذه العلوم، وكان أبو حيان كثيرا ما ينقل آراء ودروس شيخه أبي سليمان المنطقي في قضايا مشابهة من مثل تعريف النفس والعقل والسكينة، وفي المنطق ذكر أبو حيان مقالا لابن يعيش في الممكن والفرق بينه وبين الواجب والممتنع، وذكر الحوار الحامي الشهير بين أبي سعيد السيرافي النحوي الفقيه، وأبي بشر متى المناصر للعلوم المنطقية اليونانية والداعي بشدة إليها، و لميوله الصوفية وتعمقه في علوم المنطق أطنب أبو حيان في مرات عديدة في التحدث عنها وذكر أهم قضاياها وبحثها.
- في اللغة بكافة أقسامها من صرف ونحو وبلاغة وغيرها من علوم اللغة: حيث كان الوزير غالبا ما يسأله عن مسألة لغوية وأبو حيان يجيب عليها، وكانت الأسئلة تدور حول الفروق اللغوية، وتوضيح معاني بعض الكلمات الغريبة ومواقع استخدامها، وعن بعض الأفعال وما هي الحروف التي تتعدى بها، وكان أبو حيان يتحدث أحيانا عن اللغة العربية ذاكرا ما تتميز به بشكل عام عن اللغات الأخرى، وأحيانا كان يدافع عن علم خاص كمدافعته المستميتة لعلم البلاغة وإفحامه لمن فضل علم الحساب عليها، وكذكره لمحاورة أبي سعيد السالفة التي بين فيها أهمية النحو في جعل الحياة أفضل بتسهيل وتيسير التواصل بين الناس وجعله أكثر كفاءة وفعالية.
- في الأدب بكافة أقسامه من خطب ورسائل ومقولات وأشعار، ففي مرات كثيرة كان يستشهد بأبيات لشعراء متعددين من عصور مختلفة كأبي الورد وذي الرمة والقطامي والحجاج (شاعر معروف في عصره)، وأيضا كان يستشهد ويذكر خطبا ومقولات لفصحاء ومتكلمين سابقين، ويزين حديثه أيضا بقصص غريبة وحوادث عجيبة وقعت في عصور مختلفة.
- في قضايا عصره وسياسة حكامه، وفي وصف وزرائه وعلمائه وشعرائه وأدبائه، ففي مرات عديدة كان الوزير يسأل أبا حيان عن رأيه في مجموعة من الشعراء والعلماء في مجالات مختلفة، وأحيانا كانوا يناقشون قضايا سياسية، وبعض الجماعات التي تظهر هنا وهناك، وكيفية التعامل معها مما ينقل إلينا صورة لا بأس بها عن حوادث ذلك الدهر وأحواله.
- في الإنسان والأمم والشعوب وأحوالها وفي الأخلاق والسجايا والطبائع، حيث تطرق لتعريف الإنسان، ومم يتكون، وتعرض للأمم والنقاشات الواردة حول أفضلية بعضها على بعض، وذكر أنه يرى أن لكل أمة فضائل ومساوئ وهي متغيرة بذلك حسب أحوالها وأزمانها وقوتها وضعفها، وذكر مطولا أخبار العرب وصفاتهم ودافع عنهم، ورد على الجيهاني الذي ألف كتابا في مثالب العرب، وتطرق أيضا للأخلاق فعرفها وذكر ما هو خلق وما هو ليس بخلق، وتعرض لشرح وتفصيل أخلاق الناس وكيف أنهم يشابهون الحيوانات فيها إلا أنهم يتميزون عنها بالعقل.
- في عالم الحيوانات، وغاص هنا وأبحر وذكر في ثلاث ليال متتالية كما هائلا من المعلومات عن حيوانات متعددة ومتنوعة المألوف منها والغريب، الموجود والمنقرض، الحقيقي والخرافي، وطفق يذكر صفاتها، وطباعها، وتناسلها، ويقارن بينها وبين الإنسان.
الأسلوب:
اتبع أبو حيان في كتابه أسلوبا سرديا رائعا، يخاطب فيه صديقه أبا الوفاء المهندس، ويذكر له الحوارات التي دارت بينه وبين الوزير بأسلوب تكثر فيه:
- الجمل القصيرة، والسجع المنظم المسبوك، ولننظر إليه حين يقول:" من شف أمله شق عمله، ومن اشتد إلحاحه، توالى غدوه ورواحه، ومن أسره رجاؤه، طال عناؤه، وعظم بلاؤه، ومن التهب طمعه وحرصه، ظهر عجزه ونقصه"
- ثم إنه إذا وصف بالغ وأتقن ولم يترك واردة في الموصوف ولا شاردة إلا وقيدها، وذلك تطبيقا لأمر العارض حين قال له: "واجزم إذا قلت، وبالغ إذا وصفت"، وهذا الوصف البديع يتجلى بوضوح حين قام بوصف الوزير ابن عباد فلنستمع إليه قائلا:" والناس كلهم محجمون عنه؛ لجرأته وسلاطته واقتداره وبسطته، شديد العقاب طفيف الثواب طويل العتاب، بذيء اللسان، يعطي كثيرا قليلا أعني يعطي الكثير القليل، مغلوب بحرارة الرأس، سريع الغضب، بعيد الفيئة قريب الطيرة، حسود حقود حديد، وحسده وقف على أهل الفضل، وحقده سار إلى أهل الكفاية"
- وكان أسلوبه صريحا فيعترف لأهل الفضل بالفضل، ولأهل الإساءة بالإساءة، فهو كثيرا ما يتبع ذكره لشيخه أبي سليمان، والوزير العارض، وصديقه أبو الوفاء المهندس بألفاظ الدعاء بالرحمة والبقاء والحفظ، ويتبع ذكره للزنادقة والمناطقة والمتفيقهين بما يستحقونه.
- ونلاحظ أنه ينسب كل مقولة وكل معلومة يذكرها لصاحبها، وإن أغفل ذلك أحيانا فإن الوزير يسأله عن مصدر تلك المعلومة حتى يقطع الشك باليقين.
- وعرضه للمعلومة شامل يأتيها من كل جوانبها، ويلاحق جميع نقاطها نقطة نقطة كما في رده على المدعي بأن علم الحساب هو أفضل العلوم وأن علوم البلاغة ما هي إلا فضلة لا داعي لها، فرد عليه أبو حيان ردا شاملا تعرض لكل كلمة ذكرها ذلك المدعي ونقضها من غزلها، وفضحها على الملأ مبينا عوارها.
- ودائما ما يورد الحجج العقلية في معرض رده على بعض الخصوم، أو محاولة إقناعه لمحدثيه بنقطة ما، كرده على المدعي السابق، والذي قال له: بأنك حتى تقنعني بوجهة نظرك لجأت إلى علم البلاغة فصغت جملك المنمقة، وعرضت ألفاظك عرضا تهدف فيه إلى تبيين وجهة نظرك، وهذا هو جوهر البلاغة.
الخاتمة:
أتمنى أن تكون الجولة قد أمتعتكم، وشجعتكم على قراءة هذا الكتاب العظيمة خيراته، الوافرة بركاته، التي سيطلعك بلا شك على حقبة من حقبات تاريخنا العظيم، وسينقل لك أخبار قوم دفنت أجسادهم تحت الثرى، وما زالت عبق ذكراهم يفوح في الهواء، ويفتح عقلك على قضايا متعددة لها صلة كبيرة بواقعنا المعاش، حول العرب وصفاتهم وما كانوا عليه، وحول اللغة العربية وكيف ينبغي أن ينظر إليها، وحول بعض العلوم المتعلقة بها من نحو وبلاغة، ويوجه نظرك إلى الهدف الحقيقي والغاية السامية من هذه العلوم، وفي النهاية ليس كل ما سبق هو الهدف الحقيقي لهذا الكتاب، وإنما هو مسامرة، مثاقفة، محاورة، عصر للأفكار، تحريك للذهن، تلاقح بين العقول، إمتاع ومؤانسة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق